ومثل للواجب بالحياء، وهذا أيضاً فيه حكمة عظيمة، فقال: (
والحياء شعبة من الإيمان )، فاختيار هذا المثال دون غيره من الأمثلة لحكمة عظيمة، وهي: (
الحياء كله خير، ولا يأتي إلا بخير)، ورأسه هو الحياء من الله تبارك وتعالى، ثم إن الحياء عمل قلبي، لكن لابد أن يظهر أثره على الجوارح، فلا يصح أن تقول: استحييت من كذا، وأنت لم تظهر أي أثر عليك للحياء، إذ الحياء بطبعه لا بد أن يظهر أثره على الجوارح، مثل: حديث الثلاثة الذين دخلوا الحلقة، (
فأما الأول فآوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحى فاستحيا الله منه)، أي: استحى أن يخرج واستحى أن يزاحم الصف، ولم يجد مأوى فجلس؛ ولذلك الحياء خلق يحمل صاحبه على فعل ما يليق وما ينبغي وما يحمد في الدنيا والآخرة، فهو صفة دائمة، أي: خلق يتفرع عنه أخلاق كثيرة جداً، فعفيف اللسان حيي، والذي لا يغتاب الناس حيي، والذي لا يأكل أموال الناس بالباطل حيي، والذي لا ينظر إلى ما حرم الله حيي، وهكذا لو لم يكن الحياء إلا أن يترك الإنسان فضول الكلام وفضول النظر إلا فيما ينفعه لكان خيراً، وكذلك مع هذين يترك فضول الفكر؛ لأن فضول الفكر يستولي على أذهان الناس، لكن فضول النظر معلوم، فينظر الإنسان أحياناً أو يتأمل في بيت أو في سيارة أو في أشياء تأخذ عليه لبه ووقته وجهده، وفضول الكلام يضيع أكثر مجالس المسلمين، فيظفر الشيطان من هذه المجالس بما يريد، وربما كانوا خارجين من المسجد فلا يقومون من ذلك المجلس إلا وقد ارتكبوا من القبائح والسيئات ما يزيد على ما كسبوا من حسنات في صلاتهم، أو في عمل الطاعة التي كانوا فيها، وربما قال أحدهم (
كلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) كما جاء في الحديث -نسأل الله العفو والعافية- وقد يخرج المرء من الإسلام بكلمة والعياذ بالله، بل لو لم يكن إلا كلاماً في العباد فإنه يكون حراماً؛ ولذلك الإنسان إذا اجتنب فضول الكلام فيما لا يعنيه، كان ذلك أدعى إلى أن يجتنب ما حرم منه، على أساس أن فضول الكلام هو في المكروه وفيما لا ينبغي، أما إذا قلنا: إنه يشمل الحرام، فهذا داخل فيه كله، وهذا لا يمنعه منه إلا الحياء، ويجب أن يكون المؤمن كذلك دائماً، أو أن يكون من صفات المؤمن الأساسية الثابتة فيه أنه حيي، فلا يشتغل بفضول النظر، فينظر إلى هذا وإلى ذاك وإلى تلك، وما أكثر ما يشتغل الإنسان بفضول النظر، فيتشتت همه وذهنه وفكره، وقد عمد في هذا الزمان وسائل الدعاية والإثارة والإعلان، وهذه لا يهمها الحياء أبداً، بل أكثر وأول ما تحارب الحياء في نفوس الناس باستقطاب الأنظار واستلفاف الأنظار بأي شكل من الأشكال؛ ولذلك ربما يخرج الإنسان من المسجد وهو في خشوع وفي صمت وفي وقار وسكينة، فيجد أمامه ما يشد نظره إلى هذا وإلى ذاك، فيشتت ذهنه فيرجع إلى بيته وقد ذهب كل ما كان في قلبه، حتى النظر في الأمور التي ربما تكون مباحة وليس فيها حرام، ينبغي للعاقل أن يتحرز منها؛ لأنها دائماً تشغل بال الإنسان، مع أنه في إمكان العبد أن يقول عوضاً عن هذا الضياع: سبحان الله وبحمده مائة مرة، فتغفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، فكم يفوت على الإنسان خير كثير نتيجة هذه الانشغالات؟ وكذلك الذي يستحي من الله لا يشغل فكره وباله بأمور لا تهمه، فيجلس في أحلام وخيالات، وكيف لو كان كذا؟ وكيف لو جاء كذا؟ وكيف لو أصبحت كذا؟ أمور لا يترتب عليها خير بحيث إذا أفاق منها وتركها يعلم أنها كلها باطلة، ولو أنه شغل قلبه وفكره بالتفكر في خلق السموات والأرض، والتفكر في حياته وفي مصيره وفي ذنوبه وفي وقوفه بين يدي الله تبارك وتعالى، وفيما يهمه من أمر دنياه إن لم يكن من أمر آخرته، لكان خيراً له، فهذا هو الواجب على المؤمن، أي: أن يتحرز وأن يتحرى دائماً أن يكون حيياً في كل موضع وفي كل مكان، وعليه فالحياء عمل قلبي، وعمل القلب أهم من عمل الجوارح، ولهذا كان التمثيل به؛ لأنه عمل قلبي، وهو أصل وأساس في صلاح الأعمال الأخرى الواجبة، فناسب أن يمثل به، فهذه هي الحكمة التي تظهر لنا، والله تعالى أعلم.